الحمد لله الذي امتن علينا بنعمة الإسلام والسنة فله الفضل والمنة، والشكر له على التوفيق لسلوك طريق طلب العلم الشرعي، فبه يعرف الله وبه يُتَّقى..
ونحمده أن علق قلوبنا بتوحيده مقتدين في ذلك بسلف الأمة الأطهار من الصحابة والتابعين والأئمة الأخيار، ومجانبين لطرق المبطلين الرويبضات الأغمار..
أما بعد:
فإن نشر التوحيد الصافي النقي ديدن الخلص من عباد الله الذين فهموا عن الله جل وعلا معنى قوله: فَاعْلَمْأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ، علموا وعملوا وصاروا بذلك أئمة الهدى ومصابيح الدجى؛ ثم إن إقامة التوحيد كما هو قار في قلوب الموحدين هو سبب خلق السماوات والأرضين وبعث الرسل والنبيين وإنزال الكتب تبصرة وذكرى للعالمين.
وإني راغب في هذه السطور تبيان مسألة مهمة زلت فيها أقدام كثير من دعاة التوحيد وهي: الاقتصار على إيصال المفاهيم النظرية عند شرح المتون وتناول كتب الاعتقاد والغفلة عن غرس ثمار التوحيد السلوكية في قلوب ونفوس الطلاب؛ وهدي رسول الله هو التوحيد السلوكي العملي الشامل وهو الذي ربى عليه أصحابه رضي الله عنهم جميعا..ولما انتشرت البدع والمحدثات والجدليات والكلام الفلسفي البدعي الإلحادي، تعلق كثير من أهل الحق بحسن نية بالردود والمناظرات حتى فرغت دعوة التوحيد من كثير من مقاصدها الحسنة وأولها تعبيد القلوب لله جل وعلا وتقريبها من منازل المحسنين؛ مع العلم أن أهل السنة لا يناظرون ولا يجادلون إلا عند تمحض الضرورة الشرعية تحقيقا للفرض الكفائي وصيانة للشرع وذودا عن حياضه..
فلمَّا يوجد متخصصٌ في العقيدة جاف المعاملة قاسيها، مقطب الجبين حاد الكلام، منطلق اللسان في أعراض إخوانه، فثَمَّ خلل كبير وخطب جسيم ينبغي الانبراء للتنبيه عليه وبيان خطره، إذ لا يتصور ذلك ممن يتحدث في أسماء الله وصفاته ومعانيها المُهيِّجة للقلوب الصادقة للتحقق بها والتخلق بها وسؤال الله بها والتضرع إليه بها، إنما الذي يظن به بل الحقيق به أن يكون لين الجانب مخبت القلب، مجتهدا في التعبد متبعا للسنن وقافا عند حدود الله جل وعلا مبتعدا عن الشبهات، ناصحا للخلق رفيقا بهم، سمحا إذا تكلم وناظر، راغبا في هداية الناس إلى الصراط المستقيم لأنه دائم التحدث عن الله..
والحلُّ في نظري للخروج من هذه الأزمة، أن ينشغل الدعاة خاصة والمؤمنون عامة بمعاني التوبة النصوح ويعملوا على الإتيان بها ليرفع الله جل وعلا ظلمات الغفلة وأثقالها عن الأمة ويمكِّن لها في الأرض كما وَعَدَ في كتابه وعلى لسان رسوله، وتعودَ إلى الرشد الذي تركها عليه رسول الله وأصحابه؛ والتوبة كما هو معلوم هي وظيفة العمر وهي أجلُّ ما يعامَلُ به الله سبحانه وتعالى ولنا في نبينا إسوة فهو المعصوم مواظب على الاستغفار والتوبة شكرا لله على نعمة الإسلام والتوحيد محرض لأمته عليه..
والانشغال بتحقيق التوبة ينبغي أن تُعْتَبَرَ فيه أصول مهمة هي:
1- الدعوة إلى التوحيد العملي السلوكي الذي كان عليه رسول الله وأصحابه والتوبة من مخالفة هديه في الدعوة إلى تصحيح العقائد..
2- التوبة من التفقه الفروعي لأجل حظوظ النفس ومغالبة الأقران وجعل الانشغال بالخلافيات أصلا..
3- التوبة من التفريط في العمل بما حصل من علم التوحيد والفقه، إذ الموحد الفقيه أعرف الناس بالله أبعدهم عن الشبه والتكالب على أعراض الدنيا الزائلة.
4- التوبة من الدعوة المخالفة لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في التفقه، بالانشغال بمعرفة سيرته وأخباره..
5- التوبة من الانشغال الكاذب بقضايا الأمة، إذ فاقد الشيء لا يعطيه..
6- التوبة من التفريط في الدعاء ونَصَبِ الجسد في التعبد والمجاهدة.
وأخيرا البدار إلى العمل مع استمداد التوفيق والتسديد من الله.
فاللهم تب علينا توبة نصوحا ترفعنا بها إلى مقام الصديقين الذين حَسُنَ فهمهم عنك يا كريم.