الرئيسية / قصص وروايات / قصة انت لى لوحدى

قصة انت لى لوحدى

توقفت أنفاسى فى أنبهار تام وأنا أدلف إلى ذلك القصر الضخم الذى يحمل أسم { معاذ بهاء الدين }صاحب أكبر سلسلة شركات سياحية فى الشرق الأوسط كله…
وكدتُ أقسم من شدّة أنبهارى بما حولى من مظاهر العز والترف أننى بطريقة ما - لا أدرى ما كنهها ؟ - قد غادرتُ الحياه بكل متابعها وهمومها لأنتقل إلى الجنه مباشرة حيث الحياه الرغدة بلا متاعب أو هموم !

قادنى الخادم إلى حجرة واسعه زادتنى أنبهارا ً فوق أنبهارى ، بأثاثها الحديث الطراز ، وكل مظاهر النعيم والرفاهيه التى تزخر بها ، وطلب منى الجلوس والأنتظار حتى يحضر سيده…
كنتُ بالفعل مُتعبة للغاية ، فتهالكتُ على أقرب مقعد لى ، وشعرتُ براحة وأسترخاء لا أحظى بهما فى منزلى حيث المقاعد الباليه المُتحجرة ، التى تؤلم لا تُريح…
وبدون أن أشعر وجدتُ نفسى أقارن بين هذا القصر العظيم ، وبين منزلى الصغير ، بجدرانه المُتصدعه ، وطلاءه المُتشقق ، وأثاثه البالى القديم ، وشعرتُ بمرارة لا مثيل لها…

هل لابد أن يتمتع الأنسان بكل هذه الرفاهيه ؟
هل لابد أن يملك الأنسان شمعدانا ًمن الذهب الخالص ، وأوانى من الفضه ، وكؤوس من الكريستال النقى لكى يشعر بالراحه فى منزله ؟
لماذا لا يتبرع الأغنياء بجزء من ثروتهم لأعالة أسره فقيره كأسرتى ؟
ألن يكتمل المظهر الجمالى بدون كل هذا البذخ ؟ !

أطلقتُ تنهيده مريره وأنا أنهض من مكانى وأخطو عدة خطوات نحو الواجهة الزجاجية للغرفة لأتأمل الحديقة المُمتلئه بالزهور الجميلة ، وأعض على شفتاى ألماً وحسرة…

” مرحبا ً . “

أنتزعنى هذا الصوت الرجولى الهادئ من أفكارى ، فأستدرتُ ببطئ لأتطلع إلى صاحبه و…….
وخفق قلبى بكل قوته !

لم يكن صاحب هذه العباره رجلا ً فى العقد الخامس أو السادس كما تخيلته ، أنما كان شاباً فى بداية الثلاثينيات من عمره… طويل القامة… عريض المنكبين… حاد الملامح والقسمات… له عينان بُنيتان فاتحتان…. ونظرات مُتفحصة وجريئة ، تنفذ إلى الأعماق مباشرة ً… وتوحى بمدى ثقته بنفسه وغروره !

تقدم الرجل بضع خطوات منى ، وجلس فوق إحدى المقاعد الأسفنجيه واضعا ً إحدى ساقيه فوق الأخرى ، وراح يتأملنى بهدوء كما لو كان يتأمل لوحه فنيه ، أو تمثالاً من رخام ، مما أربكنى بشدّه وجعلنى عاجزة عن النطق لفترة من الزمن !

وبينما كنتُ فى ذلك أتانى صوته وهو يقول فى ضجر :
” لا أظنكِ سعيتِ لمقابلتى ، لكى تتأملينى وتقيمينى فقط . “

عضضتُ على شفتاى ، وأنتبهتُ إلى أننى قد صار لى فترة طويلة أتأمله دون أن أنطق ببنتُ شفه ، فنفضتُ عن نفسى توترى وأنبهارى بالقصر وصاحبه وقررتُ أن أبدأ فى الحديث مُباشرة ً ؛ فأنا هنا فقط لغرض مُعين…
وسأفعل أى شئ… وكل شئ لتحقيقه…

” هل لا أخبرتِنى يا أنسه بسبب طلبك لمقابلتى شخصياً ؛ فهناك أعمالاً مُهمه تنتظرنى ؟ “

أخذتُ نفساً عميقاً ، وحاولتُ أن أتغلب على قلقى وخجلى ، وأنا أقول :
” أننى أريد التحدث إليك بشأن مُنير حسين . “

مط الرجل شفتيه بضجر ثم قال :
” ومن هو مُنير حسين هذا ؟ هل من المًفترض أننى أعرفه ؟ “

تعجبتُ كثيراً من رده واستنكرته فى آنً واحد… ألا يعرف من هو مُنير حسين ؟
ألهذه الدرجه لا يشغل باله بأى شئ ؟
ألا يهتم أبداً بمشاكل العاملين لديه ؟
كم أنا بلهاء لأظن أن رجلاً مثل هذا قد يشغل نفسه بأمور كهذه ؛ فلابد أن لديه عشرات المديرين الذين يتولون عنه هذه الأمور التافهة من وجهة نظره…
فماذا يعنى له أن يختلس شخصا ً من خزانته تسعة آلاف جنيه ، وهو الذى تذخر خزانته بالملايين من الأوراق الخضراء ؟ !
وماذا يعنى له أن يُلقى رجلا ً فى الخمسين من عمره ، فى زنزانه رطبه ، فى مثل هذا الطقس البارد ، وهو الذى يملك مثل هذا القصر الفخم ، الملئ بالمدفئات التى لا تكاد تشعره بالفرق بين فصول السنه الأربعه ؟

حاولتُ التحلى بالصبر بقدر الأمكان وأنا أقول بهدوء نسبى :
” إنه أمين الخذانه بشركة من سلسلة شركاتك . “

ظل صامتا ً لفترة من الزمن وقد ضاقت عيناه بشكل يوحى بأنه يجاهد لتذكره ، قبل أن يهز رأسه ويقول :
” نعم نعم تذكرته… إنه ذلك الذى أختلس مبلغا ً ما من خذانتى . “

عضضتُ على شفتاى بأسى وقلتُ :
” نعم إنه هو . “

تأملنى الرجل مليا ً، ثم قال :
” وما شأنكِ به ؟ “

قلتُ :
” إنه أبى . “

تطلع الرجل إلىّ بحيره ثم قال :
” لم أفهم بعد سبب زيارتك لى يا أنسة…… “

قلتُ بسرعة :
” أسمى أروى . “

قال :
” حسنا ً أخبرينى يا أنسة أروى عن سبب تشريفك لى بهذه الزيارة . “

رغم أننى شممتُ رائحة السخرية فى جُملته الأخيرة إلا أننى لم أكترث لها ، وأخرجتُ من حقيبتى مظروفا ً يحتوى مبلغا ً من المال ، قدمته له قائله :
” لقد أتيتُ لأعطائك هذا المبلغ . “

تناول الرجل منى المظروف ، ونظر إلى محتواه بحيرة ثم قال :
” لكن… لماذا أتيتِ إلى هنا ؟ كان بأمكانك أن تسلمى المبلغ إلى قسم الشرطة ، ومن ثم سيفرجون عن والدكِ . “

تنهدتُ وقلتُ :
” لكن هذا المبلغ غير كامل… إنهم خمسة آلاف لا غير… “

وأضفتُ بتعاسه :
” لم أتمكن من الحصول على المبلغ كاملا ً… أرجو أن تعتبر الأربعة آلاف المُتبقيه دينـّا ً فى عنقى ، وأن تسمح بأن يتم الأفراج عن والدى . “

هز الرجل رأسه مُتفهماً ، ثم قال :
” نعم… فهمت الأن . “

وصمت لبرهة ثم مال نحوى وتطلع إلى عينى مُباشرة ً ثم قال بأهتمام :
” ومن أين لفتاه صغيره مثلكِ بأن تأتى بهذا المبلغ ؟ “

أحنقتنى جُملته كثيرا ً ، إلا أننى جاهدتُ لكى لا أفقد صبرى وأنا اقول :
” إننى فى الثامنة عشر من عمرى ولستُ صغيره ، ثم أننى بأمكانى تدبر أمرى جيداً . “

تحولت نظراته المُتعالية فى هذه اللحظه إلى نظرة إعجاب أدهشتنى ؛ فلم أتوقع من هذا الشخص المُتعالى سوى نظرات الغطرسة والتكبر الذى ظل يرمقنى بها منذ وقعت نظراته علىّ !

ظل الصمت يغلفنا لفتره طويلة ، قطعتها أنا حين قلتُ :
” أرجو أن تقبل عرضى هذا… وأعدك بأننى فى خلال شهر واحد سأجلب لك الأربعة آلاف المُتبقية بإذن الله . “

هذه المرّه ظل الرجل صامتا ً لفترة أطول ، قبل أن ينهض فجأه من مكانه وناولنى المظروف الذى يحوى المبلغ ، قائلا ً :
” أسف يا أنسة… لن أستطيع قبول عرضكِ هذا . “

وأضاف بصرامة :
” لقد أخطأ والدكِ وعليه تحمل خطأه وحده . “

قال جُملته هذه وولانى ظهره هاماً بالأنصراف…
قلتُ :
” لن أنكر أن أبى أخطأ حين فعل ذلك ، لكنه رجل كبير فى الستين من عمره ، وهو أيضا ً مريض بالروماتيزم ، والطقس بارد جدا ً والزنزانه كما تعرف عالية الرطوبه . “

توقف عن السير وألتفت إلىّ ثم قال بصرامة :
” كان لابد أن يراعى والدكِ كل هذا قبل أن يمد يده ويسرق من خذانتى . “

وأضاف بغضب :
” وكان لابد أن يراعى قبل هذا كله أنه لديه فتاه صغيرة ، لا يجب أن يحملها عبئه ، بدلا ًمن أن يتحمل هو عبئها . “

قلتُ :
” لكنه فعل هذا من أجلى أنا . “

نظر إلىّ بعمق كأنما يحاول أن يخترق رأسى بنظراته وينفذ منها إلى أعماقى ، ثم قال :
” من أجلكِ أنت ؟ كيف هذا ؟ “

تنهدتُ ببطئ وقلتُ :
” لأننى سأتزوج ، وكنتُ فى حاجة لبعض الأشياء من أجل الزواج . “

رفع الرجل حاجبيه فى دهشة وقال مُستهجنا ً :
” أنكِ لازلتِ صغيره جدا ً على الزواج . “

قلتُ مُحنقه :
” أخبرتك مُسبقا ً أننى لستُ صغيره . “

قال الرجل بإصرار :
” بل إنكِ صغيره جداً ، ولا تعرفين مصلحتكِ ، وكان لابد أن يرفض والدك زواجكِ وأنتِ فى هذا العمر… أو على الأقل حتى تنهين جامعتكِ . “

قلتُ :
” لكنى لستُ فى الجامعة… لقد أكتفيتُ بدراستى الثانوية . “

عقد الرجل حاجبيه فى شدّه وقال :
” كان لابد أن يرغمكِ والدك على دخول الجامعة . “

أستفزتنى جُملته كثيرا ً… إنه يتصور أن العالم بأكمله يحيا فى مثل هذا الترف الذى يحيا فيه . . أو رُبما يظن أن المرتب الضخم الذى يتقاضاه والده من عمله لديه يكفى لأن يعيل أسرتها ، ويتبقى منه ما يكفى لمصاريف الجامعة أيضا ً !

قلتُ مُنفعله :
” ومن أين له أن يأتى له بمصاريف الجامعة ؟ يبدو أنك لا تدرى كم المُرتب الذى يتقاضاه والدى من عمله لديك ؟ “

نظر الرجل بعينان تقدحان شررا ً، وبدا كأنه يحاول السيطرة على أعصابه وهو يقول بصوت هادئ نسبيا ً:
” ليس لدى وقتا ً لأناقش أموركِ الماليه يا أنسه . “

قلتُ بعصبيه :
” وأنا أيضا ً لم أتِ إلى هنا لكى تعطينى رأيك فى أمور حياتى… لقد أتيتُ لغرض معين ، ولك الحق فى أن ترفضه أو تقبله . “

قال الرجل وقد فذ صبره تماما ً :
” وها أنا أخبركِ للمره الثانيه برفضى لطلبكِ… وأعتذر لكِ بشدّه لأننى ليس لدى وقتا ً لأضيعه فى مثل هذه التفهات . “

وولانى ظهره هاما ً مغادرة الحجرة…
لم أستطع السيطره على غضبى ، فقلتُ له بغضب :
” أنا التى أعتذر لكِ بشدّه على مجيئى إلى هنا ومقابلتكِ… لكنى كنتُ أظنك تملك قلبا ً بين ضلوعك ، لا حجرا ً كالذى تبين لى أنه يحتل موضع القلب لديك . “

توقف الرجل فى مكانه ، وألتفت لينظر إلىّ قائلا ً بصرامه :
” أخرجى من هنا . “

صدمنى ما قاله ، إلا أننى أفقتُ من صدمتى بسرعه وغادرتُ قصره بسرعة…
وكم شعرتُ وقتها بكره شديد لهذا الرجل المُتكبر الأجوف القلب !
لم أكن أتصور أبدا ً أن هناك فى هذه الدنيا من هم مُتعجرفين وأنانيين بهذا الشكل !
تباً لكل من ظن نفسه قد أمتلك العالم بأمواله…
سحقاً لكل من ظن الناس عبيداً لديه…

توجهتُ نحو قسم الشرطه لزيارة أبى ، وأخيرا ً وبعد عدة محاولات سمحوا لى بمقابلة أبى… وحين رأيته هالنى ما رأيته على وجهه من شحوب ، وشعرتُ كأن عمره قد أزداد عشرون سنه كامله فى هذان اليومين !

” كيف حالك يا أبى ؟ “

ابتسم أبى ابتسامه مريره ، ثم قال :
” الحمد لله على كل شئ . “

وصمت لبرهه ثم أستطرد :
” كيف حال أمكِ وأشقاءكِ ؟ “

قلتُ :
” جميعنا بخير . . لا ينقصنا سواك . “

أبى أطلق تنهيدة حزينة وطأطأ برأسه أرضا ً بقلة حيلة ، ثم قال :
” أعرف أننى خذلتكم جميعا ً… لكنى لم أملك حلا ًسوى هذا لأتمام زواجكِ . “

قلتُ أعاتبه :
” وهل كنت تظن أننى كنتُ سأقبل الزواج بينما أنت فى هذه الظروف ؟ “

أبى قال :
” هل تم تأجيل الزواج ؟ “

قلتُ :
” طبعا ً… لكننا سنتمه حينما تخرج بإذن الله . “

أبى ظل صامتا ً لفترة ثم قال بأسى :
” يخيل لى أننى لن أخرج من هنا ثانيه يا أروى . “

ربتُ على كتفه وقلتُ له :
” ستخرج من هنا بإذن الله يا أبى… “

أبى أطرق هنيهه ثم قال بقلة حيلة :
” ومن أين لى أن أتى بذلك المبلغ ؟ لقد أنفقتُ كل المبلغ الذى أخذته من الخذانة . “

قلتُ :
” لا تقلق بهذا الشأن يا أبى… لقد أستطعتُ الحصول على خمسة آلاف… وبإذن الله سأتمكن من الحصول على الأربعة آلاف المُتبقية قريبا ً . “

أبى عقد حاجبيه بشدّة قائلا ً :
” ومن أين لكِ بهذا المبلغ يا أروى ؟ “

قلتُ :
” لقد تدبرت الأمر يا أبى . “

أبى نظر إلىّ لفتره ثم قال :
” هل بعتِ شيئا ً ؟ “

قلتُ :
” فداك كل شئ يا أبى.. المهم أن تعود لنا سالما ً . “

أطرق أبى برأسه فى حزن لفترة من الزمن ، قبل أن يعود لينظر إلىّ ويقول :
” أسمعى يا أروى… سأطلب منك طلبا ً إذا قمتِ به رُبما يفرجون عنى . “

أنتبهت حواسى حينئذ وقلتُ متشبثه بالأمل :
” كيف يا أبى ؟ أخبرنى .”

أبى صمت لبرهة ثم قال :
” صاحب الشركه رجلا ً معروف بطيبة قلبه وكرمه… إذا ذهبتِ إليه رُبما يسمح بإخراجى من السجن . “

نظرتُ إلى أبى بخيبة أمل كبيره وقلتُ :
” لقد ذهبت إليه بالفعل يا أبى . “

أبى نظر إلىّ بلهفة وسألنى :
” هل رفض ؟ “

زفرتُ بضيق وأنا أتذكر لقائى معه ، ثم أومأت برأسى إيجاباً وأنا أقول :
” إنه رجل متكبر ومغرور… أبى أن يأخذ منى المبلغ بل وطردنى من منزله . “

أبى نظر إلىّ بدهشة ثم قال :
” كيف هذا ؟ إنه يعامل كل العاملين لديه معامله حسنه… “

قلتُ :
” هذا ما حدث يا أبى . . “

وأضفتُ بسرعه حين رأيت ذلك الحزن الذى أطل واضحا ً من عينىّ أبى :
” لكن لا تقلق . . أنا سأتدبر الأمر بإذن الله و . . . “

بترتُ عبارتى لدى دخول ذلك الشرطى الذى أخبرنا بأنتهاء الزيارة ، ثم وضع الأغلال بيد أبى وقاده إلى الزنزانة !
حاولتُ التماسك وأنا أغادر قسم الشرطة لكن الدموع خنقتنى ولم أستطع الأحتمال ، فأطلقتُ العنان لها وتركتها تغمر وجهى . .
لماذا يا ربى يحدث لى كل هذا ؟
لماذا لا تكتب لى الراحة أبداً ؟ لماذا ؟

عن دليلي

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *