الحرب العالمية الأولى: الدبابات البدائية


_tank_jpg/250px-British_Mark_V_(male)_tank.jpg)
بعد تقدم صناعة المدافع الرشاشة الآلية، أصبحت الكلفة البشرية خلال الحروب عالية جداً، فلجأت كافة الجيوش خلال الحرب العالمية الأولى لحفر الخنادق، وتعزيزها بخطوط كثفية من الأسلاك الشائكة والتحصينات. ولفترة لم يكن أمامها للتقدم واكتساب الأرض، إلا القيام بهجمات جبهوية وبتشكيلات ضخمة من الجنود المشاة على شكل موجات بشرية، على أمل تمكن جزء ولو قليل منهم بعبور المنطقة الحرام والفاصلة ما بين الخنادق الصديقة وتلك المعادية، للاشتباك بالعدو في معارك تلاحمية، وكان ذلك يتم تحت وابل كثيف من نيران المدافع الرشاشة وقذائف الهاونات والمدفعية الثقيلة.
ومن هنا بدأت الجيوش سعيا حثيثا لإيجاد الوسائل لحل هذه العقدة، وكان قد أسند مشروع سري للبحرية البريطانية لتقوم بتطوير الدبابة وتدريب طواقمها على اعتبار أنها من السفن البرية، وأشرف اللورد الأول للأدميرالية “وينستن تشرشل” على لجنة سفن البر، وجائت باكورة هذه الجهود في أيلول من العام 1915، بصنع أول نموذج ناجح للدبابة البريطانية “ليتل ويلي”. وللحفاظ على السرية نقلت هذه المركبات الجديدة على أنها خزانات للمياه، ومن هنا انسحب عليها الاسم بالإنكليزية وبشكل رسمي منذ كانون أول من نفس العام.
سجل الاستخدام الأول للدبابة في المعارك باشتراك دبابتين من طراز مارك-1 البريطانية الصنع في القتال أثناء معركة “فليرس كورسيليت” (جزء من معركة السوم) في 15 سبتمبر 1916، وطور الفرنسيون دبابة شنيدر.سي.آي-1، واستعملوها لأول مرة في 16 نيسان 1917.
وكانت أول مشاركة ناجحة لحشد من الدبابات في معركة كامبري في 20 تشرين الثاني 1917، وكان لها دور حاسم في معركة “أمينس”، عندما تمكنت قوات الحلفاء من اختراق المواقع الألمانية بفضل دعم الدروع. على الجانب الألماني لم يتم إنتاج إلا عدد محدود من دبابات إيه7في والذي لم يتجاوز الـ 20 دبابة حتى نهاية الحرب.
كانت أول مواجهة بين الدبابات من الطرفين يوم 24 نيسان 1918، في “فيلرس بريتونيوكس” عندما تجابهت ثلاث دبابات مارك-4 بريطانية مع ثلاث ألمانية من طراز آي.7.في. لجأ الألمان للعديد من الإجراءات للحد من تأثير دروع الحلفاء، فقاموا بحفر الخنادق العريضة، ووجدوا عرضا بعض الذخائر المؤثرة، كما عمدوا لاستدراجها نحو عوائق رأسية، بغية التمكن من استهداف بطن الدبابة لملاحظتهم هشاشة تدريعه أمام الأسلحة الخفيفة، لكن ذلك لم يكن كافيا لتغيير مسار الحرب. كما ظهرت تصنيفات جديدة، فكانت الدبابة “الذكر” تسلح بمدافع متوسطة وثقيلة نسبيا، في حين كانت الدبابة “الأنثى” تزود بعدد كبير من الرشاشات الخفيفة بغرض حماية الأولى ومواجهة مشاة العدو كمهمة رئيسية لها. عانت هذه الدبابات البدائية من مشاكل عديدة، فلم تتجاوز سرعتها الـ 13 كم/س على الأكثر، كما كان لها اعتمادية منخفضة عموما لكثرة أعطالها الميكانيكية والفنية، وكمثال يكفي القول أنه ومن أصل 150 دبابة مارك-1 احتشدت في معركة السوم، فإنه لم تتمكن إلا 9 دبابات فقط من الانطلاق في مرحلة الهجوم، نتيجة للمشاكل الميكانيكية.
ما بين الحربين: النشوء والارتقاء
خضعت الدبابات لسلسلة طويلة من التطويرات والتعديلات وخاصة خلال الثلاثينيات من القرن الماضي، وكان أكثرها تقدما تلك البريطانية، حيث ركزت المملكة المتحدة على إنشاء قوات مدرعة متفوقة، وقامت بعدد كبير من التمرينات الميدانية، لاختبار وتحسين تكتيكاتها، بينما لم تضف الولايات المتحدة الأمريكية الكثير في هذه الحقبة بسبب تفضيلها لسلاح الفرسان والذي كان يستنفذ معظم مخصصات الميزانية القليلة أصلا والمرصودة للمدرعات. كذلك كانت الحال بالنسبة لألمانيا وفرنسا، اللتين عانتا من اقتصاد مرهق بعد الحرب، عدا عن تدمير كامل ترسانة الأولى من الدروع بموجب بنود معاهدة فيرساي.
وهكذا انقسمت الدبابات إلى ثلاث فئات لدى الجيش البريطاني. وهي الدبابات الخفيفة والتي تراوحت أوزانها في حدود العشرة أطنان، ولها تسليح خفيف عادة لم يكن فعالا إلا ضد مثيلاتها واستخدمت في أدوار الاستطلاع. أما الدبابات الثقيلة فوصلت أوزانها لما يزيد عن الـ 60 طنا، وتمتعت بنسبة كبيرة من التدريع، على حساب سرعتها، حيث كانت مهمتها تأمين الاختراق الأولي لخطوط العدو وذلك بإسناد المشاة والمدفعية ضمن قوات الأسلحة المشتركة، لتندفع بعدها طوابير الدبابات المتوسطة للتغلغل، والتي روعي في تصميمها إعطائها قدرات حركية عالية ومدى عمل بعيد لتمكينها من عبور المسافات الطويلة نحو العمق المعادي لتدمير خطوط إمداداته ومراكز قيادته.
لقد كانت هذه الخطوات الأولى نحو تبلور مفهوم الحرب الخاطفة، وتقريبا تطور هذا المفهوم في دول عدة، إلا أن “هانز جودريان” قائد القوات المدرعة الألمانية يعتبر أول من وضع تلك النظريات في إطارها العملي، وحولها إلى تطبيق ميداني بنجاح هائل، والذي تأثر كثيرا بنظرية التقرب الغير مباشر للمؤرخ العسكري والمنظر البريطاني “ليدل هارت”.
الحرب العالمية الثانية: الألمان والحرب الخاطفة.


دخلت ألمانيا الحرب العالمية الثانية بدبابات محدودة القدرة عموما، لم تكن لتوازي نظيراتها الغربية، فكانت أغلب الدبابات الألمانية من طراز بانزر-1 والمعدة لأغراض التدريب ولم يزد وزنها عن الـ 5.4 طن، ولها تسليح رئيسي مؤلف من مدفعين عيار 7.62 ملم، وتدريع بلغت سماكته 13 ملم على الأكثر.
بالإضافة إلى البانزر-2 والبانزر-3 وصولاً إلى الطراز بانزر-4 بوزن 25 طنا، وبمدفع من عيار 75 ملم، وسماكة تدريع تصل إلى الـ 80 ملم وشكلت البانزر-4 عماد تسليح الوحدات المدرعة الألمانية خلال سنوات الحرب.
ومع ما تقدم فقد شاركت تلك الدبابات بنجاح كبير في اجتياح بولندا، وأظهرت ما يمكن للدبابة تحقيقه باتباع تكتيكات الحرب الخاطفة، وجائت الحملة على فرنسا والأراضي المنخفضة بنتائج أوضح على ذلك.
فتجنب الجيش الألماني القيام بهجوم جبهوي على خط “ماجينو” الدفاعي الفرنسي والممتد على طول الحدود بين البلدين، لقد تكون هذا الخط من سلسلة كثيفة من الحصون الخرسانية المنيعة، وأمامه انتشرت الخنادق العريضة والموانع الرأسية المضادة للدبابات، وكذلك الأسلاك الشائكة والألغام، ناهيك عن الكم الهائل من المدافع الآلية والثقيلة. وعوضا عن عن التفكير بتحمل خسائر لا مبرر لها وعملا بخطط الجنرالين “فون مانشتاين” و”هانز غودريان” لجأ الجيش الألماني لعبور غابات “الآردينز” التي نظر إليها الحلفاء على أنها مانع طبيعي لكثافتها. لقد تقدمت تلك الأرتال من الدبابات محققة اختراقا عميقا لمسافات قاربت الـ 300 كلم، ملتفة على القوات الفرنسية والبريطانية لتطوقها في عدة جيوب وتعزلها عن خطوط إمداداتها ومراكز قياداتها ومواصلاتها. استفادت الدبابات من حركيتها العالية في تحيقيق النصر خلال مدة قياسية، وهذه المرة تفوق الألمان بتكتيكاتهم الجيدة، وليس بتصاميم متفوقة.
في حين أرست هذه الحملات دعائم تكتيكات القتال بالدروع، فإن الحرب العالمية الثانية أدت إلى نقلة نوعية أيضا من ناحية التصميم الهندسي للدبابات، ولما كان من متطلبات تلك المرحلة، فقد زودت الغالبية الكبرى من الدبابات الألمانية، البريطانية، الأمريكية، والسوفياتية بأجهزة الراديو اللاسلكية، وإن على مستويات مختلفة من الكفاءة، لتتحسن بذلك الاتصالات الميدانية وتتيح المجال لمرونة القيادة والسيطرة، وتوجيه الوحدات المدرعة وضمان التنسيق معها وفيما بينها. كذلك تطورت أنظمة التعليق، فاستبدلت نوابض امتصاص الصدمات التقليدية بوسائل أحدث كقضبان اللي، بالإضافة إلى نظام “كرستي” للتعليق، فأصبح في مقدور الدبابات الوصول إلى سرعات عالية نسبيا وخارج الطرق، والتحرك بشكل مريح أكثر فوق الأراضي الوعرة، دون تعريض طواقمها لاهتزازات عنيفة تؤدي إلى إصابتهم.
أما لجهة التسليح والدروع فقد نمت بشكل مطرد خلال سنوات الحرب، وظهر جيل جديد من الدبابات المتفوقة، ولعل من أبرزها دبابة “كي.في.1” السوفياتية، بزنة 45 طنا، ومسلحة بمدفع قوي من عيار 76.2 ملم، ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى حادثة كمين “كراسنوجفارديسك (غاتشينا)” قرب مدينة “لينينغراد”، يوم 14 آب 1941، عندما اعترضت قوة صغيرة من 5 دبابات “كي.في.1″ بقيادة الملازم ” كولوبانوف” طلائع الفرقة الثامنة الألمانية المدرعة، وخلال اشتباك استمر لمدة نصف ساعة تم تدمير 43 دبابة ألمانية، كانت في معظمها من طراز بانزر-2 المسلحة بمدفع من عيار 20 ملم، إلى جانب عدد قليل من طراز بانزر-3 بمدفع من عيار 37 ملم، لا تضاهي تلك السوفييتية، لقد أحصى الملازم عدد 135 طلقة أصابت دبابته لم تنجح أي منها في اختراقها.
وقد جائت تصاميم الدبابات الألمانية الأحدث مثل الـ “بانثر” بزنة 44.8 طنا وبمدفع من عيار 75 ملم، ووصلت سماكة دروعها إلى 120 ملم، وتلتها التايغر-1 و”تايغر-2″ التي فاق وزنها 69 طنا، وبلغ سمك تدريعها 180 ملم في المقدمة، وتم تسليحها بالمدفع الشهير من عيار 88 ملم، كما برزت الدبابة تي-34 السوفياتية والتي شكلت علامة فارقة في تصميم الدروع حيث ركز فيها المهندسون السوفيات على الدروع المائلة، فزادت فعالية حمايتها بشكل ملحوظ، دون زيادة وزنها والتضحية بقدراتها الحركية، فتمتعت بسرعة عالية، وتسليح قوي، فكانت من أنجح دبابات تلك الحقبة.
ما بعد الحرب: نزاعات إقليمية وميادين اختبار.

في الفترة التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية، عرف العالم العديد من النزاعات العسكرية المسلحة، وفي ظل ما عرف بالحرب الباردة، وقعت عدة حروب إقليمية شكلت ميادين اختبار جيدة لقسم واسع من الأسلحة، لا سيما الدبابة، ابتداء بالحرب الكورية، مرورا بحرب فيتنام، والحرب السوفياتية – الأفغانية، وصولا لحروب الخليج المتتالية. كما شاركت الدبابات بكافة الحروب العربية – الإسرائيلية منذ العام 1948، ولربما كان مسرح الشرق الأوسط من أبرز ميادين اختبار الدبابة إن لم يكن أهمها على الإطلاق حتى وقتنا الحالي.

واصل السوفيات نهجهم السابق في المرحلة التي تلت نهاية الحرب العالمية، فصمموا دبابات على نسق الـ تي-34، فكانت الدبابتين تي-54 وتي-55 تطويرا آخر لتلك السالفة الذكر، حافظت على تصميم الهيكل المنخفض، وقدر عال من القدرات الحركية، كما اعتمدت دروعا مائلة، وسلحت بالمدفع الواسع الانتشار طراز “دي-10تي” من عيار 100 ملم وفاق ما أنتج منها 86 ألف دبابة، دخلت الخدمة لدى الجيش السوفياتي، وقوات دول حلف وارسو إلى جانب عدد كبير من الدول التي اعتمدت على مصادر الكتلة الشرقية. قابلها في الغرب دبابات السنتوريون البريطانية، و”إم-48″ الأمريكية و”ليوبارد-1″ الألمانية، بمدافع من عيار 105 ملم، إلا أنها كانت أثقل من مثيلاتها الشرقية. ثم استبدلت تلك الدبابات بجيل آخر تمثل بدبابات “تي-62” السوفياتية المسلحة بمدفع من عيار 115 ملم، ودبابة “إم-60 باتون” الأمريكية، وتشيفتين البريطانية، قبل الوصول لدبابات مثل تي-64، تي-72، “تي-80” في الشرق، وفي الغرب ظهرت دبابات مثل تشالنجر 1 البريطانية، “ليوبارد-2” الألمانية، “لوكلير” الفرنسية، و”إم-1 أبرامز” الأمريكية، وتراوحت أعيرة مدافع هذا الجيل ما بين 120 و 125 ملم، واكبتها أنظمة جديدة وإلكترونيات أكثر تطورا، كما بذلت الجهود لإعطاء الدبابات قدرات القتال الليلي، ووسائل تهديف مدعومة بالحواسيب.

جائت أزمة السويس عام 1956، وتلتها حرب حزيران عام 1967، لتكرس دور الدبابة في المعارك، إلا أن حرب أكتوبر عام 1973، شكلت صدمة لمصممي الدبابات، وأثرت تأثيرا عميقا في تطورها لدى كل من المعسكرين، فلقد عكس تقدم الأسلحة المضادة للدروع نتائج كارثية على مسيرة الدبابات، حيث نشر كل من الجيشين المصري والسوري أعدادا كبيرة من الأسلحة المضادة للدبابات، والمحمولة من قبل المشاة، من القذائف الصاروخية مثل الـ”آر.بي.جي.7″ أو الصواريخ الجديدة الموجهة سلكيا من طراز “آي.تي.3 ساغر”، كبدت الدروع الإسرائيلية خسائر جسيمة فاقت الـ 400 دبابة في الأيام الثلاثة الأولى للحرب، فعمد الإسرائيليون بعد ذلك لنشر صواريخ أمريكية جديدة من طراز بي جي ام-71 تاو، وبنفس الأسلوب تمكنوا من تدمير أعداد كبيرة من الدبابات، خاصة يوم 14 تشرين 1973 خلال تطوير الهجوم المصري، بلغت حوالي 264 دبابة، كذالك كانت الحال في معركة “كفر ناسج” في مرتفعات الجولان.
ونشرت الدروع الردية للدبابات خلال حرب لبنان صيف العام 1982، قبل أن تأتي حرب الخليج الثانية، لتظهر مدى أهمية توفير أنظمة الرؤية الليلية المتقدمة عدا عن أنظمة التصويب وإدارة النيران، حيث تمكنت الدبابات البريطانية والأمريكية من رصد واستهداف الدبابات العراقية ليلا من مسافات بعيدة قاربت الـ5000 متر في بعض الأحيان، دون إتاحة الفرصة لتك الأخيرة للقيام بنفس الشيء، نتيجة لعدم التكافؤ بين مستويات أنظمتها التقانية.